كان لردة الفعل العربية على المسلسلات التركية تأثير سلبي أكثر مما هو ايجابي في تركيا. فقد استغرب الأتراك الهجمة ودهشوا للفتاوى الدينية واستغربوا العشق الذي لقيه «مهند» عند النساء العربيات. وكانت محاولات هناك لتفسير هذه الظاهرة وهل هي إيجابية ام سلبية على العلاقات العربية - التركية، خاصة ان هذه المسلسلات هي في نظرهم خيالية ومزيفة ولا تعكس الواقع التركي الحقيقي، كما يظن المتفرج العربي. لقد قرأنا كثيراً عن رأي العرب، فكيف يرى الأتراك مسلسلاتهم، وما رأيهم بهذا النهم العربي لها؟.
دفعة جديدة من المسلسلات التركية في طريقها إلى المتفرج العربي
عذراً فأنا اكتب من دون أن اكون قد تابعت بانتظام مسلسلي «نور» أو «سنوات الضياع»، فنحن في تركيا منهمكون بمتابعة «وادي الذئاب» و«أوراق متساقطة». وهي أعمال سيتعرف إليها مشاهد الشاشة الصغيرة العربي، حتماً، ما دامت الهجمة على ما هي عليه بخصوص نتاجات التلفزيون التركي.
هذا لا يعني أننا هنا لم نسمع بمهند ولميس، لكن المنافسة في تركيا حسمت لصالح نجوم آخرين، وسيناريوهات اكثر واقعية وحركة أقرب الى القلب. ومع ذلك فالعودة الى أرشيف التلفزيون التركي ومعرفة ما فاتني ليس بالأمر الصعب.
موجة المسلسلات التي عصفت بالداخل التركي خلال السنوات الثلاث الاخيرة حملتها المصادفة والحشرية الى البلدان العربية حتى لا نقول ان نظام العولمة وقواعده المبنية على التجارة والربح السريع والوفير هما اللذان يقفان وراء كل هذا الصراخ في أكثر من عاصمة.
ولو لم يدخل رجال الدين والعلماء على الخط مباشرة من خلال الدعوة لتحريم المسلسلين او مقاطعتهما لانهما «من المسلسلات الخبيثة الانحلالية الضالة التي تحوي الكثير من البلاء وهدم الاخلاق ومحاربة الفضائل»، ولو لم تصل المسألة إلى حد التكفير، لكنا قلنا إن وهج «نور» وغضبة «سنوات الضياع» ظاهرة عابرة في العالم العربي، ستخمدان وتزولان تماماً كما حدث في أكثر من مرة. «نور» و«سنوات الضياع» مرّا مرور الكرام في اسطنبول، مثل عشرات المسلسلات اليومية الأخرى. والأتراك يتابعون بدهشة واستغراب ان تكون مسلسلاتهم تتحكم وتعصف بالشارع العربي على هذا النحو، بحيث تزايدت بشكل لافت أسماء «لميس» و«نور» و«مهند» بين الاطفال الحديثي الولادة. أذهلنا كأتراك أن يفجر المسلسلان المذكوران، هذا الضجيج في البلدان العربية وأن يقودا الكتاب والاعلاميين والمعنيين من خبراء واختصاصيين الى مناقشة الأبعاد الأخلاقية والدينية المتعلقة بهما وانعكاساتها على موضوع الترابط الاسري، والبنية التحتية للمجتمعات، وأن تؤديا الى ما نسمع به وينشر يوميا عن حالات غيرة وشجار ونزاع وطلاق.
هل تساهم مثل هذه المسلسلات بالتعريف بتركيا على حقيقتها وترفع من أسهمها في العالم العربي؟ وهل تزايد فعلا عدد العرب الراغبين في زيارة اسطنبول والتعرف عن قرب الى الاماكن التي صورت فيها أحداث هذه المسلسلات مما يشكل خدمة للسياحة التركية ويعزز من قيمتها واهميتها؟ ولماذا التحرك باسم الدين في بعض البلدان العربية، بينما لا تصدر عن المشايخ والعلماء الأتراك أية ردة فعل. لن يكون الجواب المطمئن طبعاً، ان يقال لنا ان تركيا بلد علماني وان الفتاوى من هذا النوع ممنوعة هناك؟
المفكر والصحافي التركي الاسلامي المعروف فهمي قورو كان يكتب في منتصف حزيران حول العوامل الايجابية التي تولدها مثل هذه الاعمال في مجتمعات تتقاسم الدين ونمط العيش والثقافة الواحدة. ولا بد انه صدم هذه الايام بسبب الانعكاسات السلبية التي تركتها أصداء المسلسلين. فالقضية بالنسبة للأتراك أهم وأكبر من جلب أو محاولة استدراج المزيد من السياح العرب إلى المدن التركية متجاهلين كل ما تسببت في إشعاله من حرائق وفزع وقلق وانقسام داخل البيت العربي.
عرفان شاهين أحد المشرفين على مسلسل «نور» يقول ان المسلسلات تلعب دوراً كبيراً في التعريف بتركيا سياحياً وثقافياً، وان المسلسل ينقل صورة عن الداخل الأسري الاجتماعي لحياة الناس في اسطنبول. أما المتخصص في حقل الاعلام التلفزيوني أونسال أوسكاي، في رأيه أن «لا حاجة للارتباك والاستغراب، ما يجري له علاقة مباشرة بطلب التغيير والانفتاح. النفط قد يوفر لإحدى الدول الغنى الطويل المدى والثبات الاقتصادي والمالي، لكن حياة الناس ونمط عيشهم لن يكونا جامدين وثابتين بعد الآن، ولن يكون بمقدورنا وضعهما تحت المراقبة والتدخل الفوري عند اللزوم، خصوصا في عصر التكنولوجيا والاعلام والتواصل الثقافي واللغوي المنفتح على كل شيء. ما تسبب به مسلسل «دالاس» الاميركي قبل سنوات من ضجيج وانقسامات وسجال اجتماعي ثقافي وانعكاسات على الاتراك، لا نزال نعيش رواسبه وانعكاساته على المجتمع التركي، حيث سارع الشباب الى التقليد والتشبه بأبطال المسلسل في لباسهم وحوارهم ولغتهم. وهذا ما يحدث اليوم في المجتمعات العربية من خلال «نور» و«سنوات الضياع». أنا أتفهم الأمور انها بداية التغيير.
نجمة مسلسل «نور» عايشة فارليار التي تلعب دور دانا، لا يفرحها كثيراً ما يجري، تقول «انها كانت تفضل ان يناقش النقاد وكتاب الصحافة العربية اداءها وشخصيتها والدور الذي لعبته في المسلسل، لكن ذلك لم يحدث». فالمشاهد العربي فضّل طرح موضوع هذا النموذج العصري للأسرة، فلعل المشاهد وجد موضوع المسلسل واقعياً ويستحق التبني. هذه الشعبية الواسعة في العالم العربي سببها ان الناس هناك يعيشون تحت سطح جملة من التقاليد والعادات والعامل الديني المؤثر الاكبر، ووجدوا في المسلسل فرصة لقول ما بداخلهم وما عجزوا عن طرحه وقوله حتى الآن. لكن المشكلة الاساسية تبقى في طريقة التعامل مع ما ينقله التلفزيون من وهم وخيال ويترك الكثيرين عرضة للتأثر وقبول ما يجري على انه حقيقة واقعة فيحولون مع الاسف نجوم المسلسل الى مثل أعلى، ورمز يقتدى به، لأن ما يقولونه ويقومون به هو الصحيح برأيهم». الا تريدون الاستماع الى نجمكم مهند او محمد او قفنش تاتلي توغ، لاعب كرة السلة الذي كان يمنّي النفس ان تحمله الى الساحات الاميركية لكنه تخلى عن حلمه بعد اصابة جدية اثناء احدى المباريات دفعته لقبول دخول الوالدة على الخط وفكرة أن يصبح عارض أزياء من الطراز الأول في أهم قاعات اسطنبول، قبل موافقته على عرض التمثيل في «نور» دون تردد. «أعطي الي هذا الدور وطلب مني ان استخدم جسدي وتعابير وجهي في تأديته. باختصار كان علي تنفيذ المهمة بنجاح، هذا كل ما في الامر. لكن الناس مع الأسف خلطت بين الحقيقة والخيال، بطل المسلسل محمد (يقصد مهند) شخصية سوريالية لا أكثر ولا اقل». انه فارس أحلام عشرات الصبايا العرب ومثير غضب آلاف الشبان. يقول «فوجئت بهذه الحشود التي طاردتني خلال زيارة إلى أحد البلدان العربية، لكنني أقول لهم إنهم لا يعرفونني أنا، بل يعرفون مهند نجم المسلسل. لا يعرفون شيئاً عن إخوتي الخمسة عن أسرتي وميولي وهواياتي. لا يعرفون شيئاً عن حبيبتي التي تعرفت اليها قبل 5 سنوات، وانتخبت ملكة لجمال العالم وأخطط للزواج منها. كل ما سحرهم هو هذا المسلسل الذي أصبح من الزمن الماضي بالنسبة إلي. أنا قمت بالدور الذي أسند إلي محاولاً أن أكون مبدعاً لا اكثر ولا أقل. المنحة التي أعطاني إياها الخالق هي جيدة وانا اعرف قيمتها لكني لا اتباهى وازايد بها».
خبراء العلاقات الدولية وأساتذة علم السياسة، قلقون حقاً مما تحدثه المسلسلات التركية، ويعتبرون انهم كانوا أول المروجين للتعاون العربي - التركي والتعارف والانفتاح والتقارب الثقافي بين العرب والاتراك «فوقعنا في مصيدة المظهر والشكليات وجاذبية الابطال دون ان يلتفت احد الى المضمون والنص والاداء». علينا ان نتعاون معا لوقف ما يجري من مهازل يعترض عليها حتى النجوم الاتراك انفسهم، حيث يسعى البعض لرفعهم الى مرتبة القداسة انتقاما لسنوات من المحاصرة والتقييد والحبس في قعر الزجاجة التي غادرها المارد كما يقولون لينتقم من كل شيء بدءا بالفن والثقافة والابداع.
على المتفرج العربي الآن، أن يستعد لمسلسلات جديدة وقّعت عقودها، وهي قيد الترجمة او الدبلجة والتحضير في الاستوديوهات العربية، حيث لا يعتبر مسلسل «نور» سوى نقطة في بحرها هناك في الطريق إليكم: «وادي الذئاب»، «أوراق متساقطة»، «القصر المعلق» و«الربيع الثاني». وهي مسلسلات يشارك فيها عشرات الفنانين والفنانات الاتراك، الذين اختير الكثير منهم من صالونات عروض الأزياء أو مسابقات الجمال.
مؤسف حقا أن يكون البعض في العالم العربي، قد تجاهل ما ينقله المسلسلان من صور ومشاهد، تعكس حجم التقارب والتشابه بيننا كعرب واتراك وتداخل الدراما والبيئة الاجتماعية والعادات والتقاليد ورجح التوقف عند روعة قصر مهند واحتشامه وجاذبية النجوم.
المحزن أيضا هو أن يغفل بعض المتحمسين ليونة «مهند» ورشاقته مرجحا ابراز الوجه الآخر للتعبير عن صورة السيف المشحوذ باسم الحداثة والتحرر والانتفاضة متجاهلا أن «نور» جاء من عالم الوهم وإليه سيعود، اما الحقيقة فهي ما يجري في العراق وفلسطين ودارفور وجورجيا من اقتتال وسفك دماء.
«نور» و«سنوات الضياع»، يعكسان أيضا حالة الازدواجية اللغوية والثقافية والاجتماعية التي يعاني منها الاتراك، رغم أن ما يناقش في المسلسلين لا يلزم احدا وهي ليست الصورة النهائية للمجتمع التركي. قد يكون أحدهم نجح في استدراج بعض المشاهدات العربيات الى الفخ وجعل من ذلك القشة التي قصمت ظهر البعير بتقديم ما يدور على أنه هو الملجأ الذي يتنفس البعض عبره المزيد من الرومانسية واشباع الرغبات والحاجات العاطفية، وهو حق مكتسب لا اعتراض عليه برأينا، لكن التركيات أيضا بحسب الدراسات والاحصاءات يعانين من نفس المعضلة، بسبب كل ما يحيط من مشاكل وهموم، تعاني منها المرأة مثل تحجيم دورها والعنف الاسري.
«نور» و«سنوات الضياع» نقلا صورا فيها الكثير من المبالغة والتضخيم دارت أحداثها في قصور من الوهم بناها المخرج والمنتج وكاتب السيناريو، وهم تعاونوا على ابراز الدراما التركية بوجهها العلماني، وبالغوا في رسم صورة الوضع. هذه الاعمال رغم كل ما تقدمه من جودة واحتراف في التمثيل والتصوير والسيناريوهات، لا تنتمي إلى البيئة التركية ولا تعكس وضعها الحقيقي، ويكفي التجول في قرى وأرياف الاناضول وجنوب شرقي تركيا لتنفس الصعداء عربياً والعودة الى ارض الواقع واكتشاف أننا كلنا في الهوا سوا. نور «لم تفضح الرجل الشرقي» كما يقال، لكن هذا لا يمنعنا من القول ان مثل هذه المسلسلات اثرت فعلا في مزاج الأسرة العربية ورغبات التغيير وردود الفعل قد تكون بنيوية وعميقة لكننا لا نعرف بأي اتجاه ستسير. من حق ائمة المساجد قول ما عندهم لا بل هو واجبهم طبعا، لكن هناك معنى آخر لما يجري، انه الوجه التجاري ولعبة الانتاج والتوزيع والاستثمار السينمائي والتلفزيوني في العالم العربي الذي ننتظر منه الرد الحاسم والسريع من نفس العيار وبالشدة ذاتها ليقول الكثير مما عنده، والا ستظل غصة بعد سنوات طويلة من الجهد والعطاء في هذا المجال، حين يقتحم مهند آخر بابهم دون استئذان قالبا المعادلات والحسابات.
لم نشاهد اعمالاً عربية كثيرة ترجمت الى التركية في السنوات الاخيرة، والعاملون في هذا القطاع من المحترفين العرب لم يعرفونا كفاية بنجومهم وطاقاتهم ونتاجهم، وهم اهملوا فعلا عشرات الاعمال التي تستحق حملها الى الأتراك والتي تنقل صورة نقية عن المجتمع العربي ثقافيا واجتماعيا وحضاريا والفرصة لم تزل بعد. فعلى المشاهد العربي أن يستعد بعدما جرى ليكون عرضة لموجات وحملات جديدة شجعت الطامحين والطامعين والمستثمرين الاتراك، في أكثر من حقل ومجال، فهل ستكفي الفتاوى والاستشارات الدينية للرد والمواجهة؟
قد يكون الاتراك تلفزيونياً دخلوا المنزل العربي بقدمهم اليسرى، لكن شعبية العدالة والتنمية والحماس الذي اظهره الشارع العربي حيال فريق تركيا الوطني لكرة القدم خلال التصفيات الاوروبية كافيان لتسوية المسألة حبيا واطلاق صفحة جديدة من التعاون والانفتاح يطالب بها مهند الذي يحتج على هذه المبالغة والتضخيم والاستسلام للشكليات والمظاهر والقشور. لا يظن البعض أن مهندا يسره كثيراً سحب صوره من الانترنت لتكبيرها والصاقها على جدران غرف النوم فمحاولة الهروب إلى الأمام على هذا النحو ستخيب آمال الكثيرين حتما.